مصيدة التواكل (علينا العمل … وليس علينا النتائج)ـ

علينا العمل … وليس علينا النتائج” مقولة ترددت كثيراً في مرحلة الصحوة، ويشكل الاستدعاء الخاطئ لها أحد الصخور في طريق النهضة، وإحدى الموانع الفكرية التي تحول دون الانتقال إلى مرحلة جديدة من الفعل. ويزيد تفاقم خطر هذه المقولة عندما تُعتبر ديناً وأمراً شرعياً يُتعبد به إلى الله ويعني التوكل في قمة تجلياته.

“وهذه المقولة صحيحة إن كان القصد أن علينا بذل قصارى جهدنا في العمل ونكل الأمر إلى الله بعد ذلك، فالمسلم يتعبد إلى الله بالتوكل، وسنتعرض هنا لهذه المقولة عندما تُستخدم استخداماً سلبياً، فتعني القعود عن المراجعات الجادة لنتائج الأعمال بحجة أننا فعلنا ما بوسعنا وعلى الله النتائج، فكيف نتأكد إن كنا فعلاً قمنا بما في وسعنا، وما أدرانا أن ما فعلناه هو الذي يحقق أهدافنا، لذلك سنتعرض لهذا الوجه الميت والمميت من الفكر باعتباره صخرة فكرية تتطلب التفكيك، وسنفكك هذه الصخرة بعشرة معاول.
المعول الأول: هذه المقولة الشائعة ليست نصاً مقدساً، ولكنها اجتهاد شاع في فهم نصوص العمل ومدى مسئولية المسلم عن النتائج، لذلك فهي ابتداءً مقولة لا تستوجب الدفاع عنها لذاتها أو تأويلها، فإن كان ضررها أكبر من نفعها فلا بأس في التوقف عن تكرارها.
المعول الثاني: النتيجة ابتداء هي ثمرة العمل، وقد وضح الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم أننا مسئولون عن أعمالنا “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يُرى. ثم يجزاه الجزاء الأوفى”. فالله سائل الإنسان عن عمله. وتبدو هذه نقطة إجماع لدى المؤمنين بالله واليوم الآخر.
المعول الثالث: ترى هل الأعمال تُحمد أو تُذم لذاتها أم للنتائج التي تترتب عليها، فشرب الخمر مثلاً كعمل هو ليس مذموم لذاته، ولكن لأن هذا العمل يترتب عليه نتيجة وهي الإضرار بالجسد والعقل وما يترتب على ذلك من سلوك معوج، والصدقة كعمل ليست محمودة لمجرد أن الإنسان يقوم بعملية إخراج المال من جيبه ليضعه في يد محتاج، وإنما للثمرة والنتيجة التي يجنيها المتصدق والمتصدق عليه. فإن كانت الأعمال ليست محمودة أو مذمومة لذاتها، لكان علينا التأكد من جدوى أعمالنا من خلال النتائج التي تحدثها.
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير عليه أصحابه بقتل زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، لكنه يرفض هذا العمل لأنه مسئول عن مآلاته ونتائجه، فهو لا يريد أن يقال أن محمداً يقتل أصحابه.
المعول الرابع: الله سبحانه وتعالى لم يطلب منا أن نكتفي بالقيام بأي عمل، بل طلب إحسان العمل واختيار أحسنه، “ليبلوكم أيكم أحسن عملاً”، فالإنسان مطالب أن يؤدي العمل الأفضل، ولا يمكن لإنسان بدعوى حسن النية أن يسيء معاملة ربه، فيقدم له بضاعة مزجاة، ثم يقول إن الله كريم يقبل كل شيء، فالله طيب لا يقبل إلا طيباً، والإنسان عندما يقوم بعمل سيء فهو محاسب عليه “من يعمل سوءاً يجز به”، إذن فليس مقبولاً من الإنسان أن يقوم بأي عمل مع علمه أنه عديم الفائدة، أو كان هناك ما هو أفضل منه، إنه مطالب بالإتقان وبإجادة العمل.
المعول الخامس: إذا لم يكن الإنسان مسئولاً عن النتيجة فكيف سيُقَوِّم عمله، وهل النتيجة إلا ثمرة عمله؟؟!! وكيف يعرف أوجه القصور فيه، إن المسلم مطالب برصد النتائج وتقويمها، فعلى ضوئها سيغير من خطته، ويعيد اختيار حزمة أعماله التي يمارسها، ولو لم يُعر للنتائج اهتماماً واعتبرها خارجة عن إرادته، لما أمكنه التعرف على جدوى العمل الذي يقوم به، وهل هو عمل سيء أم حسن أم الأحسن.
المعول السادس: يستدل البعض بأن المسلم غير مطالب بالنتائج بحديث الفسيلة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل” رواه أحمد، فيرى البعض أن المقصود هنا العمل دون انتظار النتيجة، والظاهر لنا أن الحديث هنا جاء في سياق تأكيد أهمية العمل، ولم يأت ليتحدث عن النتيجة أو ينفي مسئولية المسلم عنها، فهو في معرض الحث على العمل حتى آخر رمق في الحياة، ومن العبث القول بأن يقوم المسلم بعمل لا يجد له جدوى، فنتيجة العمل الظاهرة في هذا الحديث هي تحصيل الأجر الأخروي، لذلك إذا استطاع امرؤ أن يحصل الأجر الأخروي (وهو نتيجة) بأي عمل صالح قبل موته فليفعل.
المعول السابع: يستدل البعض على أن المسلم ليس مطالب بالنتائج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد، ويأتي النبي ومعه رجل واحد، ويأتي ومعه الرجلان، ويأتي ومعهُ ما يسد الأفق، وأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة” رواه أحمد وابن ماجة، والحديث هنا يصف نتيجة فعل بعض الأنبياء وتفاوتهم في تحصيل النتيجة، وهو لا يقول بأن علينا ألا نهتم بالنتائج، بل يجب التمييز بين إخفاق نبي ما في مهمة، وبين أن نقول أنه لن يُحصل الأجر الأخروي، فعندما ندرس تجربة رسول الله في عرض الإسلام على القبائل طالباً النصرة نقول أنه بذل كل جهده، لكن المحصلة كانت الإخفاق في أن يقنع القوم بنصرته، وكلمة الإخفاق لا تشين، لأنها تعبير عن النتيجة النهائية لمحاولات مدروسة وصادقة، وعندما نقول أن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ومعه رجل، لا نجد حرجاً في أن نقول أنه أخفق في إقناع الناس بالرسالة، والإخفاق هنا لا يعني أنه قَصَّر، بل يعني أن النتيجة لم تتحقق، لذلك يجب ألا نتهيب من كلمات الفشل والإخفاق، فهذا المجتهد الذي يخطيء ويمنحه الله الأجر، تحدث رسول الله صلى عليه وسلم أنه أخطأ، ولم يقل أنه نجح، أوأن كلاً من المجتهد والمخطيء ناجحان، بل أحدههما مخطيء وأحدهما مصيب، وللاثنين أجور تتفاوت.
إن مثل هذه الأحاديث مفادها أن الفشل وارد وشيء يجب أن نتقبله في نسبية فهم الإنسان للصواب والخطأ، وليس المطلوب أن نتبنى الفشل ونكسبه شرعية.
المعول الثامن: هناك فرق بين الإرادة الإلهية التي لا يحدث أمر في الكون إلا بعد نفاذها، وبين تخيل عدم المسئولية عن النتائج، فالإيمان بالإرادة الإلهية، والتوفيق الرباني يقي المسلم الغرور، ويعلم حين ينتصر أنه متعبد بقول الله تعالى: “وما النصر إلا من عند الله”، فالله دائماً ينسب النصر له، لكنه لا ينسب الهزيمة لنفسه، “ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك”، ويقول تعالى: “أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم”. فلا يُعقل أن يقول إنسان “لقد فعلت ما في وسعي لكن الله كتب علي الهزيمة”، وكأنه غير مسئول عن نتيجة فعله، فقد أنجز ما عليه، والله سبحانه وتعالى هو سبب هزيمته، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ولا يظلم ربك أحداً.
المعول التاسع: إن التوكل هو الأداة التي يستخدمها المسلم بعد أن يستفرغ جهده، وهي ليست الأداة التي ينتهي عندها دور الإنسان ليبدأ عمل الله، بل هي الناحية التعبدية التي تدفع بالإنسان للتعلق بمولاه ودعائه أن يجبر التقصير، فهو هنا يسأل الله التأييد والتوفيق، وإلا فعمل العبد يمر في دورات متتالية من الفعل والمراجعة والمحاسبة والتصحيح وهو في كل المراحل يقوم بعمل يحتاج فيه للتوكل على الله.
المعول العاشر: يظن بعض المسلمين أنه عمل ما عليه وليس عليه النتائج لأنه منطلق من منهج نبوي، لذلك فهذا يشعره بالراحة وأنه قدم ما يستطيع، إلا أننا إذا تأملنا لوجدنا أن فهم المنهج النبوي هو فهم بشري، وإلا لما تعددت الجماعات وطرائقها إلى بلوغ مرادها، وكلها تظن أنها الأقرب للمنهج النبوي، والحقيقة أن فعلها لا يعكس إلا ما فهمته عن المنهج النبوي، وقد يكون صواباً أو خطاً أو خليطاً بين الاثنين. فليس كون الإنسان ينطلق مما يعتقده منهجاً نبوياً أنه فعل ما يجب عليه، وأن المسئول عن إتمام النتيجة هو الله، ومع كل إخفاق يحاول بنفس الطريقة (لأنه يسير على المنهج النبوي الذي لا يخطيء) ويظل الاتهام موجهاً ضمنياً إلى إرادة الله سبحانه وتعالى التي لم تنصر من يتبعون النبي.
من المسئول إذن عن النتيجة، ولو لم يكن الإنسان مسئولاً عن نتيجة عمله لحق لكل فرد أن يفعل ما بدا له، وتظل النتيجة على الله.
إننا مسئولون عن العمل، ومسئولون عن تقصيرنا فيه، ومسئولون أن نُقوم النتائج لنعيد النظر في أعمالنا، كما أننا مع كل هذا مطالبون بالتوكل والإيمان أن التوفيق ليس إلا من عند الله، وأن أخطاءنا ليست إلا حصاد أفعالنا وأنها محط تقويم وتصحيح مستمر. وأن الإسلام يقر أن الفشل وارد، لكنه لا يدعونا لنتبناه كاستراتيجية عمل

3 تعليقات to “مصيدة التواكل (علينا العمل … وليس علينا النتائج)ـ”

  1. عائشة Says:

    مقال جميل جداً دكتور جاسم والمنطقي أن لايكون العمل عشوائياًَ بل لابد أن يكون مدروساً ومخطط له تخطيط جيد…أي أن يتم الأخذ بالاسباب مع التوكل على الله لك مني كل الاحترام والتقدير د.جاسم سلطان.

  2. أحمد Says:

    “وأن أخطاءنا ليست إلا حصاد أفعالنا وأنها محط تقويم وتصحيح مستمر. وأن الإسلام يقر أن الفشل وارد، لكنه لا يدعونا لنتبناه كاستراتيجية عمل”

    في الصميم 🙂

  3. Maryam.doha@hotmail.com Says:

    أشكر الدكتور جاسم سلطان على هذا المقال الرائع وننتظر منه المزيد من المواجهات مع الأفكار التواكلية والتخديرية التي موهت على عقول الملايين وحولتهم لمجرد متفرجين على الاحداث بدل ان يكونوا صناعا بها .نعم لقد انكفأ عدد كبير من الناس واختاروا الكمون والسكون والسبب هو قولهم علينا العمل وعلى الله النتائج وبلغ بهم امر نقد هذه الفكرة انهم تخلوا تماما عن ممارسة النقد الايجابي لاعمالهم التي صارت مكررة وخاملة وضعيفة .ارجو زيادة التركيز حول هذه الافكار التواكلية والمثبطة للهمم

أضف تعليق