د.جاسم سلطان يروي تجربته لـ العرب

عبد الباقي صلاي- العرب

الدكتور جاسم سلطان مفكر واستراتيجي مميز في دولة قطر ومنطقة الخليج العربي، له بعد استراتيجي ونظرة ثاقبة لمسار الأحداث التي تخص العالم الإسلامي، يجمع بين التحليل التاريخي والواقع المعاصر، وربما هذا الذي بوأه مكانة كبيرة لدى شريحة عريضة من النخبة في منطقة الخليج العربي والعالم الإسلامي على حد سواء، كما أنه باحث إسلامي وأكاديمي، عمل مستشاراً للتخطيط الاستراتيجي لسلسلة من المؤسسات الحكومية والخاصة، إضافة إلى أنه مستشار في المجموعة القطرية للتعليم والتدريب، ورئيس مجلس إدارة بيت الخبرة للتدريب والتطوير، ومتخصص في تدريس فن الاستراتيجية ونماذج التخطيط الاستراتيجي للمستويات العليا من الإدارة
حصل على بكالوريوس الطب من مصر والزمالة البريطانية الأولى من بريطانيا، كما عمل مديرا للخدمات الطبية بمؤسسة قطر للبترول. له العديد من المؤلفات في فقه النهضة، وهي عبارة عن سلسلة من 22 مؤلفا، طبع منها حتى الآن خمسة كتب، وهي من الصحوة إلى اليقظة.. استراتيجية الإدراك للحراك، قوانين النهضة.. القواعد الاستراتيجية في الصراع والتدافع الحضاري، فلسفة التاريخ.. الفكر الاستراتيجي في فهم التاريخ، الذاكرة التاريخية.. نحو وعي استراتيجي، والتفكير الاستراتيجي والخروج من المأزق الراهن.
ورغم أنه لا يحب الأضواء كثيرا، بيد أنه لم يرد أن يرد طلبنا في الحديث إليه، وعن تجربته الثرية في مجال الثقافة والفكر، ومعالجة القضية الإسلامية على وجه التحديد

ولدت عام 1953 في قطر، وعلى مستوى بداياتي الفكرية أعتبر أن مرحلة الخمسينيات والستينيات كانت مرحلة ثرية في المنطقة العربية بشكل مكثف، وكانت قطر تصلها الجرائد والمجلات المصرية، تحديدا المصور وآخر ساعة والأهرام، إضافة إلى الكتب المتنوعة من مختلف التوجهات والمشارب الفكرية، وهذه المرحلة على ما فيها من توجهات فكرية إلا أن نشاط اليساريين كان فيها قويا جدا هو الآخر، وكتاباتهم منتشرة بشكل قوي أيضا، وكانت قضية فلسطين حاضرة في المشهد بشكل كبير جدا أيضا، والتيار القومي كان نشاطه كبيرا بشكل لافت، ولاسيما التيار الناصري، وكنا ونحن طلاب نشهد هذا التنازع بين التيار الناصري وبين التيار الإسلامي، فحدث تزاوج مبكر بين فكرة القومية وبين فكرة الإسلام بدون فصل حدي بين الإسلامي والقومي في هذه المراحل المبكرة، وكان لنا أساتذة أفاضل لهم دور كبير جدا على الأقل على المستوى الشخصي في تغيير بوصلتنا الفكرية نحو الفكر الإسلامي

وأذكر وأنا في الصف الخامس الابتدائي أن أحد المدرسين -وهو سوداني- كان يخصص الربع ساعة الأخيرة من حصة الشريعة ليعطي فقرة قصصية، يذكر فيها قصة لنبي من الأنبياء، وقصصا أخرى من مثل قصص الحرمان والطغيان، وكان يحكيها باللهجة العامية على عكس الدرس الذي كان يلقيه باللغة العربية الفصحى، وكانت هذه الفترة من أمتع الأجزاء في الحصة، وكانت الإيحاءات مؤثرة بالفعل، ولها دور كبير في تكويني الشخصي بعد ذلك

وصادف في نفس المرحلة أن كان لنا أحد الأساتذة من فلسطين، وكان هو الآخر يخصص الجزء الأخير من الدرس لمناقشة قضية عامة مطروحة، مثل قضية فلسطين، ونحن لم نكن صراحة مدركين واعين بالموضوع بالشكل الكافي، لكن كان الأستاذ يسرد قصة كيفية احتلال فلسطين، ويطرح علينا أسئلة أحيانا أكبر من أعمارنا، وعلى فكرة أنا منذ الصف الرابع الابتدائي وأنا أقرأ بكثافة، وكانت قصة قد علقت بذهني أو بالأحرى مصطلحات يسارية، وكان المدرس ذا توجه إسلامي، فتكلمت عن الطبقات الكادحة، وهذا كنت قد قرأته في ما قرأته من كتب، فأذكر أن هذا الأستاذ غضب غضبا شديدا عن الموضوع الذي ذكرته، صراحة هذه المرحلة كان لها الدور الأبرز في رسم المنحنى البياني المتعلق بتوجهاتي الفكرية والثقافية فيما بعد، إضافة إلى أن هذه المرحلة المبكرة تركت في اعتقادي ثلاثة أشياء مهمة في نفسي، وهي أهمية الدين، وأهمية الهم العام، والعنصر الثالث -وهو مؤثر- أننا كنا ونحن أطفال نسير مع الوالد في السوق، وكانت البلد بدائية جدا، وكنا أحيانا نرى فقراء يتسولون في الشوارع، أنا أتذكر وأنا مع الوالد في السوق كنت أسأل نفسي لماذا يضطر الإنسان لمد يده للآخرين، ولماذا لا يجد الرعاية والحنان من المجتمع الذي يعيش فيه بحيث يعيش بعزة وكرامة، هذه الأشياء الثلاثة شكلت في نفسي ميولات مختلطة يسارية إسلامية، فضلا عن أني كنت أقرأ من الكتب ما يقع بين يدي، سواء كانت قصصا أو كتبا ثقيلة الوزن من حيث محتواها، مقارنة بالمرحلة العمرية آنذاك، وربما من حسن حظي أني كنت وحيد والدي، فكان يوفر لي كل شيء رغم أنه لا يقرأ ولا يكتب، فلما كنت أدخل البيت لا أتجه إلى قراءة كتب المدرسة، بل أتجه إلى الكتب الخارجية المتوفرة، فصارت عندي اهتمامات متنوعة في الثقافة والفكر المتنوع. وكانت قضية فلسطين حاضرة بشكل كبير في تفكيري بحكم تلك الفترة

بعد ذلك دخلنا إلى المراحل المتقدمة، مرحلة الثانوية العامة، وفيها زاد شغفي بالقراءة، وتحصلت على مجموع جعلني أتوجه إلى كلية الطب بالقاهرة، رغم أني كنت أرغب في كلية الهندسة، لماذا الهندسة؟ لأني كنت أحب الذهاب إلى أميركا، لكن التقسيم هو الذي أخذنا إلى القاهرة، وكنت أسارع الزمن من أجل التخلص من موضوع الطب الذي كلفت به لأنه كان عبئا ثقيلا على نفسي؛ لأتفرغ لما أنا أحبه من مختلف المجالات الفكرية، إن المرحلة التي كنت أدرس فيها الطب هي مرحلة السبعينيات، حين بدأ التيار الإسلامي في التمدد في الفضاء العربي داخل المجتمع، وبدأت كغيري من الشباب العربي أتلقف الكتب الإسلامية المتاحة في السوق كظلال القرآن لسيد قطب، والكتابات الإسلامية المتنوعة ككتب سعيد حوى، وفتحي يكن.. إلخ، هذه الكتب الإسلامية عاشت معي لفترة سبع سنوات، وهي فترة الدراسة في القاهرة، ورافقتني بعضها حتى بعد عودتي إلى قطر، ورغم أني توظفت في المستشفى، بيد أني بقيت مشدودا إلى قراءة الكتب الفكرية والكتب الإنسانية، وبعد رجوعي من بريطانيا وحصولي على الزمالة في الطب وجدت نفسي متحررا من كل قيد، إذ بإمكاني أن أعود إلى هوايتي المفضلة وهي قــــــراءة الكتــــــــــــــب الإنسانية والتاريخ والاقتصاد والفلسفة.

انتقلت إلى المؤسسة العامة القطرية للبترول وكان ذلك بالنسبة لي مخرجا جيدا لأنني كنت أكره المبيت في المستشفى، وهذا كان يحرمني من القراءة والأشياء التي أحبها، ومن المؤسسة العامة القطرية للبترول ولجت عالم الإدارة وركزت على هذا الموضوع، إضافة إلى بقية المواضيع الأخرى المتعلقة بما أحبه من فكر وثقافة وسياسة واقتصاد، وبما أني مهتم بالحالة الإسلامية بشكل كبير استمرت قراءاتي في الحالة الإسلامية ومتابعة أحوالها والتجارب المتنوعة لها، وهذا قاد إلى خليط من المعرفة الدقيقة بالمعرفة الإسلامية، والثقافة الإسلامية والتعاطي مع الكتابات الشرعية، وفي نفس الوقت ألفة شديدة جدا مع العلوم الإنسانية والفلسفة بأشكالها المختلفة، ومن خلال كل قراءاتي وتجاربي وصلت إلى قناعة أن هناك مشكلة معرفية في هذه الصراعات التي تدور بين الإسلاميين والقوميين واليساريين والحكومات، وفكرت في ما يجب أن نساهم به لفض هذا النزاع الذي لا يكـــــــــاد ينتهي بدلا من البكاء على اللبن المسكوب، ومحاولة المشاركة في إيجاد حل عملي. وربما هذا ما جعلني أفكر في إنشاء بيت الخبرة والتطوير، بحيث بدأ يتبلور مشروعان، مشروع القادة ومشروع إعداد القادة ونقل المعرفة لهم، وكان أول عمل هو من الصحوة إلى اليقظة، وكان نتاج حوار مطول حول الحركات الإسلامية ومآلاتها، وكنا نرى من خلال التجارب الواقعية أن المرض كان واحدا، سواء في الجزائر أو في أفغانستان أو في أي مكان، بحيث إن الإسلاميين ينتصرون، لكن سرعان ما ينقلبون على أنفسهم ويختصمون، فوجدنا أن الخلل يكمن في التركيبة البدائية، كما أننا توصلنا إلى نتيجة مؤداها أن القرارات التي اتخذتها هذه الحركات الإسلامية كانت في أغلبها قرارات غير سليمة، نعم لما ننظر إلى التيارات الإسلامية -والسلمية منها تحديداً- نجدها تدخل في الانتخابات وتصل إلى البرلمان، وتجد أن القرارات الفعلية غير موجودة في البرلمان، فطاقات أفرادها تستنزف في هذه المساحات، بينما السؤال الحقيقي هو في تناقضها مع الدولة المركزية التي وجدت في المنطقة العربية والإسلامية فيما بعد عمليات (الاستقلال)، فهي إذن لم تحل التناقض الرئيس، ونحن نتكلم عن حركات سلمية، بأنها تقرأ ماذا يريد الطرف الآخر وما الذي يتخوف منها؟
فالحكومات تسد عليهم الباب، ويقولون نحن لا نريد حزباً إسلامياً دينياً، وتقول هي سندخل كمستقلين، الدولة تجدهم فازوا كمستقلين، فتدمر العملية السياسية بالكامل، وتقول البرلمان ليس له دور، فيعود الناس الذين هم داخل هذه التنظيمات فيقولون ماذا أنجزتم وما الذي تفعلونه؟

وتعود الأسئلة في الداخل ويبدأ التآكل الداخلي والاصطدام الداخلي، وتبدأ هذه المنظمات تفكر في كيفية حل إشكاليات فرعية، في إخراج معتقليها وملاحقة الانشقاقات، وتبدأ الانكسارات الداخلية فتطاردها حتى تحلها
السؤال كيف نخرج ونوجد ملاءمة حقيقية بيننا وبين الواقع الخارجي، بحيث لا تستنزف طاقات الدول في مطاردة الإسلاميين والتشكيك في نواياهم، فمن حق الدول أن تخاف، عندما تكون الفكرة الرئيسة في الأبجديات الإسلامية أن هذه الدولة فاسدة وأنشأها الاستعمار، وأن الحكام عملاء الاستعمار، فمن حق الآخرين أن يصابوا بالرعب ويحاولوا وقف الخطر الآتي، وينشئوا الأجهزة، ويستنزفوا أموال الدولة في متابعة هذه الظواهر، وفي نفس الوقت عندما يصادرون طاقات هؤلاء الشباب هم يصادرون أفضل طبقات المجتمع، فالمجتمع يصبح فيه استنزاف مالي، وطاقات من داخل الدولة، وفي الطاقات الشابة التي كان يمكن أن ينتفع بها بمساحات مختلفة سواءً كان عبر إقصائها عن مناصب الفعل أو إدخالها في السجون والمعتقلات

هذا التآكل يحتاج إلى مراجعة، نحن جربنا هذا الحل نحن والحكومات، وأدى هذا الأمر إلى خسائر للطرفين، وزاد من ضعف المجتمعات ضعفاً على ما هي عليه، فكيف نوجد ملاءمة حقيقية ومصالحة مع الذات أولاً، مع الذات الرسمية «الحكومات»، ومع الذات الاجتماعية «مذاهب، أعراف، اجتهادات مختلفة»، ومصالحات إقليمية عالمية. لكن للأسف لا توجد عندنا جرأة للمراجعة، بل عندنا آليات داخلية لقمع المراجعات

أضف تعليق